الشرق الأوسط وأزمات الديون في الأفق! .. بلدان بين المطرقة والسندان
بعدما قررت روسيا اجتياح أوكرانيا عسكرياً، أصبح الاقتصاد العالمي بأكلمه في مهب الريح! فقد أدت الحرب إلى ارتفاع أسعار النفط، والذي يؤثر بطبيعة الحال على ارتفاع أسعار السلع والخدمات.
التضخّم الكبير الذي تسببت فيه هذه الحرب لم يكن هو المحرك الوحيد للركود الاقتصادي الذي عانى منه معظم بلدان العالم، بل سبقه التأثر السلبي الحادث لسلاسل الإمدادات بسبب انتشار الكوفيد 19، والذي كان له هو الآخر تأثيراً كارثياً على الاقتصاد العالمي.
وعادة ما تتبع الاقتصادات العالمية الكبرى الحلول السريعة لإنقاذ اقتصاداتها في هذه الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، وعليه، رفع الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة حتى تجاوز 5%، وتبعه في ذلك المركزي الأوربي وبنوك العالم المركزية الأخرى.
رفع أسعار الفائدة عادة ما يؤدي إلى تحجيم التضخّم، وخلق حالة من الركود المحمود لفترة قصيرة حتى يتمكن الاقتصاد من التقاط أنفاسه والعودة مرة أخرى إلى النمو تدريجياً.
ومن الملحوظ أن الركود الاقتصادي عادة ما يخلق اهتماماً متزايداً ببعض الهوايات مثل الألعاب الرقمية، أو حتى زيادة الاهتمام بالألعاب التقليدية لكن من الناحية المادية البحتة! حيث يبحث البعض عن أفضل مواقع المراهنات الرياضية لتحقيق أرباحاً تعوضهم عن الخسائر الناتجة عن التضخّم الاقتصادي.
ولكن على ما يبدو أن بعض البلدان العربية عانت كثيراً من هذه الخطوة، خاصة لأن رفع أسعار الفائدة للدولار الأمريكي عنى ارتفاع تكلفة خدمات الديون السيادية في هذه البلدان.
صندوق النقد غير مطمئن
الشرق الأوسط شهد الكثير من الأحداث المحورية خلال العقد السابق، الأمر الذي كان له كبير الأثر على اقتصاداته الطموحة، كما خلّف الكثير من الآثار على المستويات السياسية والاجتماعية كذلك.
لبنان كانت هي أولى البلدان التي لم تحتمل وطأة الانفجار الكارثي لمرفأ بيروت، وأصبح جلياً بحلول عام 2019 أن البلاد تعاني من أزمة مالية طاحنة تسببت في انهيار الليرة اللبنانية وفقدان أكثر من 25 ألف موظفاً لبنانياً لوظائفهم وإغلاق مجموعة كبيرة من المطاعم والمقاهي.
والآن، لا تقف لبنان وحيدة في موقعها الذي لا تحسد عليه، حيث أشار صندوق النقد الدولي إلى قلقه بشأن اقتراب اقتصادات عربية أخرى إلى خانة الخطر المحدق!
صندوق النقد الدولي هو الآخر ليس وحيداً في قلقه هذا، حيث أشار تقرير الخبراء الاقتصاديون لصحيفة بلومبيرج أن اقتصادات مصر وتونس والأردن والبحرين قد تكون عرضة للإفلاس هي الأخرى!
كيف يمكن أن تفلس الدول؟
عملياً، لا يمكن أن تفلس الدول. لكن يتم إطلاق هذا المصطلح تجاوزاً على الدول التي قد تصل إلى مرحلة التخلف عن سداد ديونها السيادية.
وعملية الاستدانة بشكل عام ليست سيئة بالضرورة، فالاقتصاد الحديث بالكامل مبني على فكرة الاستدانة والاستثمار لتحقيق منفعة أكبر.
كما أن مجموعة من أكبر البلدان في العالم هي من أكبر البلدان المستدينة كذلك! ويتم تقييم حجم استدانة الدول بمقارنته بناتجها الإجمالي المحلي.
في عام 2022، جاءت فنلندا – وهي واحدة من أغنى الدول في العالم – في الترتيب 23 للدول المستدينة عالمياً بنسبة ديون بلغت 74.8% من قيمة ناتجها الإجمالي المحلي، بينما بلغت نسبة ديون الصين الاقتصاد الثاني عالمياً 77.1% من ناتجة المحلي.
كما أتى الاقتصاد الهندي – وهو واحد من أقوى الاقتصادات العالمية – في المركز 16 عالمياً من حيث حجم الديون بنسبة 83.1% من قيمة الناتج الإجمالي المحلي للبلاد.
بينما تجاوز حجم الديون في بلدان ذات اقتصادات كبرى مثل بريطانيا وبلجيكا نسبة 101.4% و105.3% بالترتيب من قيمة ناتجهما المحلي.
الديون الحميدة والديون الخبيثة!
كما أوردنا، يعتمد الاقتصاد العالمي بشكل أساسي اليوم على فكرة الاستدانة، فالاستدانة تتيح للجهات المختلفة الاستثمار في مجالات مختلفة وتحقيق أرباح، ما كانت تحققها لو لم تستدين.
وهذا لا ينفي مخاطر الاستدانة بديهياً، لكن الاستدانة على مستوى الدول يقوم عليها مجموعة من المتخصصين والخبراء الذين يتأكدون من استغلال القروض بشكل مفيد للاقتصاد القومي من ناحية، ومن عدم تجاوز هذه القروض قدرة البلاد على سدادها حتى لا تقع البلاد في خيوط التخلف عن السداد، وبالتالي التعثر وجدولة تلك الديون.
وهذا ما أدى إلى أن تحتل مصر المركز الثاني عالمياً في تقرير بلومبيرج، والذي يتوقع الاقتصادات الأكثر عرضة للتخلف عن سداد ديونها.
السبب الرئيسي في أن هذه الديون أصبحت حملاً كبيراً على عاتق مصر الآن، هو عدم استغلال القروض بالشكل الأمثل، مما يعني أن مردودها على المدى القصير أو المتوسط أصبح منعدم، الأمر الذي قد يعيق قدرة البلاد على رد هذه القروض في المستقبل القريب.
كما أشار التقرير إلى أن التجاء بلاد مثل مصر إلى الاستدانة الخارجية قد تضاعف بمقدار 4 مرات خلال 10 سنوات الماضية، الزيادة التي كان الهدف الرئيسي منها إنشاء بنية تحتية مميزة ومشروعات قومية كبرى، لم تأتي للأسف بالمردود المتوقع أو المنتظر، مما أغرق البلاد في أزمة عملة أجنبية.
ما مدى سوء الأوضاع في البلدان العربية المعنية؟
أشار التقرير إلى أن حجم الديون في مصر بلغ 93% من قيمة الناتج الإجمالي المحلي، بينما بلغ 125% في البحرين، و88% في الأردن، وأخيراً 80% في تونس من قيمة الناتج المحلي الإجمالي الداخلي.
أزمة الكوفيد 19 وأزمة الحرب الروسية الأوكرانية ألقوا بظلالهما على هذه البلدان، نضف إلى هذين هروب ما يعرف باسم الأموال الساخنة من هذه الأسواق الناشئة مع رفع أسعار الفائدة في البلدان الغربية.
مصر وحدها عانت من خروج 20 مليار دولار أمريكي من أسواق الدين السيادية خلال عام 2022 فقط، الأمر الذي تسبب في أزمة طاحنة لتوفير النقد الأجنبي في البلاد. أزمة تتفاقم خاصة في ظل طلب صندوق النقد الدولي لتحرير كامل لسعر صرف العملة المحلية مقابل الدولار الأمريكي، الأمر الذي قد يعني المزيد من التضخم وارتفاع الأسعار.
يتوقع الخبراء أن تعود مصر لمسار الإصلاح الاقتصادي المقترح من صندوق النقد الدولي بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية بحلول نهاية العام.
المسار الاقتصادي المقترح يشمل بيع أصول للدولة، وتخارج شركات الجيش من الاقتصاد تدريجياً، وتوفير سعر صرف مرن للأسواق.
خطوات من شأنها تحسين مسار الاقتصاد المصري والإلقاء بظلها الثقيل على الطبقات الأكثر احتياجاً في البلاد. بينما لازال الوضع في تونس أكثر تعقيداً مع انتقاد الرئيس قيس السعيد لخطة إصلاح صندوق النقد الدولي و”إملاءاته”.
أوصى صندوق النقد في تونس بخطة إصلاح مشابهة لتلك التي أوصى بها في مصر مفادها خفض المعونات الحكومية لقطاعي التموين والطاقة مع خفض فاتورة القطاع العام كذلك.
دوماً ما كان ينظر لمصر على أنها أكبر من أن تسقط في مصيدة التخلف عن الديون، فهي الاقتصاد الأكبر في شمال إفريقيا ولها أهمية إستراتيجية كبرى.
تونس هي الأخرى هي مهد الربيع العربي من ناحية، وهي بلد لها أهمية إستراتيجية كبيرة أيضاً من ناحية الموقع والتاريخ.
نقول أنه من المستبعد أن تقع مصر أو تونس أو حتى الأردن أو البحرين في شرك التخلف عن السداد، لكننا نعرف أيضاً أن تجنّب السقوط في هذا الشرك سيتطلب إجراءات حازمة ستدفع ثمنها الطبقات الأكثر فقراً.